سورة البقرة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{مّثْلُهُمْ} مرتفع بالابتداء، وخبره إما الكاف في قوله: {كَمَثَلِ} لأنها اسم: أي مثل، مثل كما في قول الأعشى:
أتنتهون ولن تنهى ذوى شطط *** كالطعن يذهب فيه الزيت والفتل
وقول امرئ القيس:
ورحنا بِكَابنِ الماء يجنب وسطنا *** تصوّب فيه العين طوراً وترتقى
أراد مثل الطعن وبمثل ابن الماء، ويجوز أن يكون الخبر محذوفاً، أي مثلهم مستنير كمثل، فالكاف على هذا حرف. والمثل: الشبه، والمثلان: المتشابهان و{الذى} موضوع موضع الذين: أي كمثل الذين استوقدوا، وذلك موجود في كلام العرب، كقول الشاعر:
وإن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أمّ خالد
ومنه {وَخُضْتُمْ كالذي خَاضُواْ} [التوبة: 69] ومنه {والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون} [الزمر: 33]. ووقود النار: سطوعها وارتفاع لهيبها، و{استوقد} بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب، فالسين والتاء زائدتان، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر:
ودَاعٍ دَعا يا من يُجيب إلى الندا *** فلم يَسْتَجِبْهُ عند ذاك مُجيبُ
أي: يجبه. والإضاءة فرط الإنارة، وفعلها يكون لازماً ومتعدياً. و{مَا حَوْلَهُ} قيل ما زائدة. وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضات وحوله منصوب على الظرفية، و{ذَهَبَ} من الذهاب، وهو زوال الشيء. و{*تركهم} أي: أبقاهم {ظلمات} جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام، وهي عدم النور. و{صُمٌّ} وما بعده خبر مبتدأ محذوف: أي هم. وقرأ ابن مسعود: {صماً بكماً عمياً} بالنصب على الذم، ويجوز أن ينتصب بقوله: {تركهم}. والصمم: الانسداد، يقال قناة صماء: إذا لم تكن مجوّفة،. وصممت القارورة: إذا سددتها، وفلان أصمّ: إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم: الذي لا ينطق ولا يفهم، فإذا فهم، فهو الأخرس. وقيل الأخرس والأبكم واحد. والعمى: ذهاب البصر. والمراد بقوله: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي: إلى الحق، وجواب لما في قوله: {فَلَمَّا أَضَاءتْ} قيل هو: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} وقيل: محذوف تقديره: طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} كلاماً مستأنفاً أو بدلاً من المقدر.
ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت، فإنه يعود إلى الظلمة، ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل، لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم: «للباطل صولة ثم يضمحلّ» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأناً عظيماً في إبراز خفيات المعاني، ورفع أستار محجبات الدقائق ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته، ومواعظه.
قال ابن جرير: إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات، واحتج بقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءامَنَّا بالله وباليوم الأخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8].
وقال ابن كثير: إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ ءامَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3]. قال ابن جرير: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال: {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدورُ أَعْيُنُهُمْ كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5].
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه {وَتَرَكَهُمْ فِي ظلمات لاَّ يُبْصِرُونَ} يقول: في عذاب {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} فهم لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} قالوا: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد ناراً فأضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي، فبينما هو كذلك إذا طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك، فأسلم فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشرّ، فبينما هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ، فهم صم بكم هم الخرس، فهم لا يرجعون إلى الإسلام.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {كَمَثَلِ الذى استوقد نَاراً} قال: ضربه الله مثلاً للمنافق، وقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} قال: أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما الظلمة فهو ضلالهم.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه.
وأخرجا أيضاً عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة، والحسن والسدي، والربيع بن أنس نحو ما تقدم.


عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين: أي: مثلوهم بهذا أو هذا، وهي وإن كانت في الأصل للشك، فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك وقيل: إنها بمعنى الواو، قاله: الفراء وغيره، وأنشد:
وَقَد زَعَمَت لَيْلى بأني فَاجِرٌ *** لِنَفسِي تقَاهَا أو عَلَيَها فُجُورَها
وقال آخر:
نال الخِلافَة أو كانت لَهُ قَدَراً *** كَمَا أتَى رَبَه ُموسَى على قَدَرٍ
والمراد بالصِّيب: المطر، واشتقاقه من صاب يصوب: إذا نزل. قال علقمة:
فَلا تَعِدلِي بَيني وبَيَن مُعَمرَّ *** سَقَتْك رَوَايا الموتِ حَيْثُ تُصَوُب
وأصله صيوب، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء وأدغمت، كما فعلوا في مِّيت وسِّيد. والسماء في الأصل: كل ما علاك فأظلك. ومنه قيل لسقف البيت: سماء. والسماء أيضاً: المطر؛ سمي بها لنزوله منها، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه: لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب، وإطلاق السماء على المطر واقع كثيراً في كلام العرب، فمنه قول حسان:
ديار من بني الحسحاس قفر *** تعفيها الدوامس والسماء
وقال آخر:
إذا نزل السماء بأرض قوم ***
والظلمات قد تقدّم تفسيرها، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد: اسم لصوت الملك الذي يزجر السحاب.
وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال: سألت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد ما هو؟ قال: «ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله» قالوا: فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: «زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر» قالت: صدقت، الحديث بطوله، وفي إسناده مقال. قال القرطبي: وعلى هذا التفسير أكثر العلماء، وقيل: هو: اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعاً للفلاسفة، وجهلة المتكلمين، وقيل: غير ذلك، والبرق: مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب، وإليه ذهب كثير من الصحابة، وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق.
وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة: إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك.
وقوله: {يَجْعَلُونَ أصابعهم فِى ءاذَانِهِم} جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلاً قال: فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل: يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الإصبع على بعضها مجاز مشهور، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الإصبع لا كلها. والصواعق:- ويقال الصواقع:- هي قطعة نار تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريباً وبه قال كثير من علماء الشريعة.
ومنهم من قال: إنها نار تخرج من فم الملك.
وقال الخليل: هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد، يكون معها أحياناً قطعة نار تحرق ما أتت عليه.
وقال أبو زيد الصاعقة: نار تسقط من السماء في رعد شديد.
وقال بعض المفسرين تبعاً للفلاسفة ومن قال بقولهم: إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ماله مزيد فائدة وإيضاح.
ونصب {حَذَرَ الموت} على أنه مفعول لأجله.
وقال الفراء: منصوب على التمييز، والموت: ضدّ الحياة. والإحاطة، الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه. وقوله: {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} جملة مستأنفة، كأنه قيل: فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد: يقارب. والخطف: الأخذ بسرعة، ومنه سمي الطير خطافاً لسرعته. وقرأ مجاهد {يَخْطِفُ} بكسر الطاء، والفتح أفصح. وقوله: {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} كلام مستأنف كأنه قيل: كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق، وسكونه؟ وهو: تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب، {وَلَوْ شَاء الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبصارهم} بالزيادة في الرعد، والبرق {إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ} وهذا من جملة مقدوراته سبحانه.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس قال: {أَوْ كَصَيّبٍ} هو: المطر ضرب مثله في القرآن {فِيهِ ظلمات} يقول ابتلاء {وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} تخويف {يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أبصارهم} يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين {كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ} يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا، فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ} [الحج: 11] الآية.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة قالوا: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، فجعلا كلما أصابهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان: ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده، وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما، وإذا أضاء لهم مشوا فيه أي: فإذا كثرت أموالهم، وأولادهم، وأصابوا غنيمة، وفتحا مشو فيه، وقالوا: إن دين محمد صلى الله عليه وسلم حينئذ صدق، واستقاموا عليه، كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء لهم البرق، وإذا أظلم عليهم قاموا، فكانوا إذا هلكت أموالهم، وأولادهم، وأصابهم البلاء قالوا: هذا من أجل دين محمد صلى الله عليه وسلم، وارتدوا كفراً كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس قال: {أَوْ كَصَيّبٍ} قال: هو، المطر وهو: مثل للمنافق في ضوئه، يتكلم بما معه من كتاب الله مراآة الناس، فإذا خلا، وحده عمل بغيره، فهو: في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات: فالضلالات. وأما البرق: فالإيمان، وهم أهل الكتاب، وإذا أظلم عليهم: فهو: رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس أيضاً نحو ما سلف.
وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين.
واعلم أن المنافقين أصناف، فمنهم من يظهر الإسلام، ويبطن الكفر، ومنهم من قال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيحين، وغيرهما: «ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه، واحدة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: من إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وورد بلفظ: «أربع»، وزاد: «وإذا خاصم فجر». وورد بلفظ: «وإذا عاهد غدر».
وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.


لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين، والكافرين، والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتاً للنكتة السابقة في الفاتحة. و(يا) حرف نداء، والمنادى أيّ: وهو اسم مفرد مبني على الضم، و(ها) حرف تنبيه مقحم بين المنادى، وصفته. قال سيبويه: كأنك كررت (يا) مرتين، وصار الاسم بينهما كما قالوا: ها هو ذا.
وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس، والعبادة، وإنما خص نعمة الخلق، وامتنّ بها عليهم؛ لأن جميع النعم مترتبة عليها، وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها، وأيضاً، فالكفار مقرُّون بأن الله هو: الخالق {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] فامتن عليهم بما يعترفون به، ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق، وجهان: أحدهما التقدير، يقال: خلقت الأديم للسقاء: إذا قدّرته قبل القطع. قال زهير:
ولأنت تفرى ما خلقت وبع *** ض القوم يخلق ثم لا يفرى
الثاني: الإنشاء، والإختراع، والإبداع. ولعل أصلها الترجي، والطمع، والتوقع، والإشفاق، وذلك مستحيل على الله سبحانه، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كان بمنزلة قوله لهم: افعلوا ذلك على الرجاء منكم، والطمع، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل: إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى هنا: لتتقوا، وكذلك ما وقع هذا الموقع، ومنه قول الشاعر:
وَقُلتْمُ لَنَا كُفُّوا الحروبَ لَعلنا *** نَكُفّ وَوَثَّقْتُم لَنَا كُلَّ مَوثِقِ
فَلَمَّا كفَفَنْاَ الحَربَ كانت عُهُودُكمُ *** كَشَبّه سَرَابٍ في المَلأ مَُتَألقِ
أي: كفوا عن الحرب لنكف، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء كأنه قال: متعرّضين للتقوى. و{جعل} هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين، ومنه قول الشاعر:
وقد جعلت أرى الإثنين أربعة *** والأربع اثنين لما هدَّني الكبر
و {فِرَاشاً} أي: وطاء يستقرون عليها. لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشاً لهم، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم، ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال: {وَجَعَلْنَا السماء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32]. وأصل البناء: وضع لبنة على أخرى، ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه، قلبت الواو لتحركها، وانفتاح ما قبلها ألفاً فصار ماه، فاجتمع حرفان خفيفان، فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. والمعنى: أخرجنا لكم ألواناً من الثمرات، وأنواعاً من النبات، ليكون ذلك متاعاً لكم إلى حين. والأنداد جمع ندّ، وهو المثل والنظير. وقوله: {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، والخطاب للكفار، والمنافقين.
فإن قيل: كيف وصفهم بالعلم، وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال: {ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} [البقرة: 18]. فيقال: إن المراد أن جهلهم، وعدم شعورهم لا يتناول هذا، أي: كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد، فإنهم كانوا يعلمون هذا، ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية.
وقد يقال: المراد، وأنتم تعلمون، وحدانيته بالقوّة، والإمكان لو تدبرتم، ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج، وترك التقليد. قال ابن فُورَك: المَراد وتجعلون لله أنداداً بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد. انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد.
وقد أخرج البزار، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: ما كان {يا ايها الذين آمنوا} فهو أنزل بالمدينة، وما كان {يُذْهِبْكُمْ يا أَيُّهَا الناس} فهو أنزل بمكة.
وروى نحو ذلك عنه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه.
وروى نحوه أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر من قول علقمة.
وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن مردويه، وابن المنذر عن الضحاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران.
وأخرج نحوه أيضاً ابن أبي شيبة، وابن مردويه عن عروة، وعكرمة.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَيُّهَا الناس} قال: هي للفريقين جميعاً من الكفار والمؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله: {لَعَلَّكُمْ} يعني (كي).
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عون بن عبد الله بن عتبة؛ قال: لعل من الله واجب.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن مسعود، وناس من الصحابة في قوله: {الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً} [البقرة: 22] أي: تمشون عليها وهي: المهاد والقرار {والسماء بِنَاء} [البقرة: 22] قال: كهيئة القبة وهي سقف الأرض وأخرج أبو الشيخ في العظمة عن الحسن أنه سئل: المطر من السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن كعب قال: السحاب غربال المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض، والبذر.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن خالد بن معدان قال: المطر ماء يخرج من تحت العرش، فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في سماء الدنيا، فيجتمع في موضع يقال له: الأبزم، فتجيء السحاب السود، فتدخله، فتشربه مثل شرب الإسفنجة، فيسوقها الله حيث يشاء.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن عكرمة قال: ينزل الماء من السماء السابعة، فتقع القطرة منه على السحاب مثل البعير.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء، ومنه ما يستقيه الغيم من البحر، فَيُعْذبُهُ الرعد والبرق.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المطر عن ابن عباس قال: إذا جاء القطر من السماء تفتحت له الأصداف، فكان لؤلؤاً.
وأخرج الشافعي في الأم، وابن أبي الدنيا في كتاب المطر، وأبو الشيخ في العظمة عن المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من ساعةٍ من ليلٍ، ولا نهارٍ إلا والسماء تمطر فيها، يصرفه الله حيث يشاء».
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: ما نزل مطر من السماء إلا ومعه البذر، أما لو أنكم بسطتم نطعاً لرأيتموه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، وأبو الشيخ عن ابن عباس قال: المطر. مزاجة من الجنة، فإذا كثر المزاج عظمت البركة، وإن قلّ المطر، وإذا قلّ المزاج قلت البركة، وإن كثر المطر.
وأخرج أبو الشيخ عن الحسن قال: ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله يصرفه حيث يشاء، وينزل مع المطر كذا وكذا من الملائكة يكتبون حيث يقع ذلك المطر، ومن يرزقه، ومن يخرج منه مع كل قطرة.
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} أي: لا تشركوا به غيره من الأنداد التي لا تضرّ، ولا تنفع {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس {أَندَاداً} قال: أشباهاً.
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود: {أَندَاداً} قال: أكفاء من الرجال يطيعونهم في معصية الله.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة {أنداداً} قال: شركاء.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، والبخاري في الأدب المفرد، والنسائي، وابن ماجه، وأبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت، قال: «جعلتني لله ندا ما شاء الله وحده».
وأخرج ابن سعد عن قتيلة بنت صيفى قالت: «جاء حبر من الأحبار إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون، قال: وكيف؟ قال: يقول أحدكم لا والكعبة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من حلف، فليحلف بربّ الكعبة فقال: يا محمد نعم القوم أنتم لولا أنكم تجعلون لله نداً، قال: وكيف ذلك قال: يقول أحدكم ما شاء الله وشئت، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم، فمن قال منكم ما شاء الله قال ثم شئت».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقولوا ما شاء الله وشاء فلان، قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان».
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والبيهقي، وابن مردويه عن طفيل بن سخبرة: «أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مرّ برهط من اليهود فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيراً ابن الله، فقالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله، وشاء محمد. ثم مرّ برهط من النصارى فقال: أنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله، قالوا: وأنتم نعم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم، فخطب، فقال: إن طفيلاً رأى رؤيا، وإنكم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم، فلا تقولوها، ولكن قولوا ما شاء الله وحده لا شريك له».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفا سوداء في ظلمة الليل، وهو أن تقول: والله حياتك يا فلان وحياتي، وتقول: لولا كلبه هذا لأتانا اللصوص، ولولا القط في الدار لأتى اللصوص، وقول الرجل ما شاء الله وشئت، وقول الرجل لولا الله وفلان، هذا كله شرك.
وأخرج البخاري، ومسلم عن ابن مسعود قال: قلت: يا رسول الله أي: الذنب أعظم؟ «قال: أن تجعل لله ندّاً، وهو خلقك» الحديث.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8